يحتضن جاليري ضي بالمهندسين معرض حالة جنوبية الذي يجمع بين الدكتور محمد عرابي عميد كلية الفنون الجميلة بالجامعة الروسية والفنانين السودانيين د عادل كبيدة ود كمال هاشم و حسب بيان المجموعة هم ثلاثة فنانين أفرزتهم الكثبان والوديان الحبلى بريادة مستقبل الثقافة الإنسانية وفي حضرة النيل المقدس والخالد في أساطير أسلافنا كأحد ينابيع جنان الله في عليائه قدموا له القرابين خوفاً وحباً .. طمعاً واتقاء.. فتموثقوا فيما بينهم وبينه على الصون والحماية والعطاء في كتاب عرف بإسمه. فتمدد في وجدانهم عشقا وشعائر حياة فكان محوراُ للمخيلة الشعبية في حكايات الجمال والعشق والبطولة والحرب وكان عطاؤه ممتداً ديناً فكراً علماً وفنون. كان رمزاً للخير والحب والجمال والخصوبة ليصبح النيل ماضيٍ وحاضر ومستقبل…
وعلى ضفافه كان السحر والعلم والمعرفة وكانت النشأة قد أحيت بداخلهم حكمة المعلم في أبلغ مظاهر الحياة حين تحول الصراع بينه وبين الرمال الناعمة إلى حوار واستكانة وتنامٍ ليستمر النيل في جريانه وتنداح الرمال إلى باطنه لتصنع الجروف والحياة فتذهل الدنيا وتزدهر الحقول. حوارٌ كان بدايةُ للحضارة الإنسانية فكراً. ديناً. فناً. خيراً وجمال.
فبتصاريف القدر أن يلتقي الثلاثة: إبن سلالة الفراعين الكوشيين بحفيد الفلاح الفصيح وذاك القادم من سفوح الجبال، وليس مصادفةً أن تجمعهم ميادين الإبداع وأروقة المعارض وصالات العلم. وتمتد الرفقة عبر الزمن. ويكون المكان قاهرة المعز. الملاذ المتخم بمفردات الحضارات فيعتصرها المبدع المصري الشعبي مواويلاً ويصنع منها معاصرةً.
ويبتذر اللقاء محاسنه في مقولة زينت جدران المنزل الطيني بمدينة طيبة لتتزاوج بما تفتقت به عبقرية الفنان المعماري حسن فتحي وتسير نحو التوحد وخلق تيار فني أصيل
” الفن من الناس وإلى الناس”
شعارٌ جمع فحوى، فيضيف الضيف للمضيف وهو القادم من الجنوب ألا كمال للإبداع إذا انتقصت منه أحد حروف الجر الثلاثة وهي ” من. عن. إلى”.
إن دعوة العودة إلى الجنوب نشأت في ظل تكريسٍ عالمي على فلسفة وإبداع أهل الجنوب. ويشهد التاريخ على ذلك. منذ القرن الثامن عشر الميلادي. حين أسقطت ركاكة الكلاسيكيات اليونانية. وبدأت ثورة ضد العقل والعين لانغلاقها دون المنهج. لينهار منهج الطبيعية أمام الصورة الفنية المنتمية لموضوعاتها. وانطلاق الروح وتجريد العمل الفني. دون استنساخ ظاهر المرئيات٠ واستنهاض القوى الخفية للسطوح تحت الضغط العقلي ليتجاوز المدرك البصري إلى ما ورائه وتمثله وهذا لا يتم إلا في وجود ثقافة تثير وتحرض المبدع فكرياً وروحياً. وإيمانا بوحدة الوجود في مفاهيم الانطلوجيا مداعبةً للحس الصوفي السريالي.
وينتقل بيان المجموعة ليضيف
الارتباط بالبيئة الجغرافية والثقافية مع إبراز للواقع كما وكيفا وتجريد الوجود غير المادي في القضايا المتافيزيقية المترتبة على التصورات والأفكار.
وجاء في بيان المجموعة أهمية التوازن بين العقل والعين وخلق علاقة بين الوظيفي والبديهي الحسي. مع تأكيد أهمية المعرفة. فإن كانت الحواس تكشف وتلخص فإن العقل المنطقي يحلل لاستخدام عملي للمكشوف أي العمل بعلمية تخدم زمانها ومكانها وموضوعاتها.
كما نص البيان على احترام خصوصية المبدَع الشعبي ومفرداته البصرية والتواصل مع المنظومة الفكرية.
ينص البيان على عدم توحيد الأساليب مع احترام خصوصية كل فنان.
إن بيان المجموعة جاء نتاج لحوار ثري في الفلسفة وعلم الجمال وتاريخ النقد وتجربة التشكيل العالمية بشقيها الذاتي والشعبي ودور الفن في خدمة المجتمع.
نناقش بعضا مما حوى المعرض الأول للمجموعة بإسم حالة جنوبية شارك فيه كل من:
كمال هاشم
محمد عرابي
عادل كبيدة
ونجول في حالة من الإختصار والتلخيص يبين ما الذي عليه ثلاثتهم نحاول أن نشرح بعضا مما أسلفنا.
الحس الوجودي والتجريد واضح في المعروض من لوحات … التنوع والإيقاعات في الخطوط والألوان تنفصل بقوة عند كمال هاشم بينما تتناغم في شفافية موسيقية وحالة سيمفونية عند محمد عرابي وكذا تمازج الأشكال الطبيعية بالمجرد تربط بينهم إيقاعات الخط العربي عند عادل كبيدة ويتشارك الجميع في التلاعب بإيقاعات الخط واللون متجاوزةً اللوحة باحثةً عن روح الأشياء. ورغم ما للرموز من دلالات ذاتية إلا أن هنالك خيطاً رفيعاً يقودك إلى الروح الشعبية لتلك الرموز وبعدها التاريخي.
أما الوجودية والوحدوية الكونية فنجدها تتجلى في ارتباط الفنان عرابي بفكرة القرابين، إمتلأت بها جدران المعابد وقدس الأقداس في الحضارة القديمة وتعمقت بأشكال مختلفة في الطقوس الشعبية ليتناولها الفنان بخصوصية ملهَمة فكما كان القربان تمثيلاً لإرضاء الآلهة لتمده بالقوة والرضاء في حالة الإنتقال بين عالم الدنيا وعالم الآلهة وكذا نجد الفنان كبيدة يتناول فكرة الوجودية الوحدوية في رسم الطقوس التي تسعى إلى الترقي إلى كينونة الواحد مخففاً ذلك عبر رموز ذاتية ترتبط بالأشكال الطوطمية والشعبية.
أما الفنان كمال هاشم المتجاوز لأشكال الأشياء وتجريدها بحثا عن الحقيقة معتمداً على إيقاعات اللون وبعده الروحي يزاوج ويشاغب بينه وبين الضوء وعبر العتامة يكون الوجود.. وتتراقص الأشكال الهندسية والنباتية والرمزية ذات الدلالة العقيدية في بعدها الشعبي والتاريخي.
بين شفافية اللون وليونه الخط غير المتقطع وهو يعبث في طفولية حالمة تتجاوز مساحة اللوحة عند عرابي وبينما أتى به كمال هاشم من مساحات لونية قوية وصارمة على سطوح لوحاته تمتزج بزخرفية الأشكال وهي لاتمل حوارها رغبة منها في تكسير صرامة اللون. وتتحول حينا إلى شخوص كأنما أتوا من أعماق التاريخ.
تأتي لوحات عادل كبيدة تتمازج وعبق الاضرحة في أشكال متجاوزة للمدرك البصري إلى المحسوس وألوان كأنها من فواخير المضاجع آخر الليل. حالة طقوسية لدراويش الوادي تجعلك تلتحم بحلباتهم وجلالاتهم في النداء داعين: الغوث الغوث والرجاء ورغبةً في الصعود الي السماء.، عبر إيقاعات النوبة في صعودٍ ولولوية فلا يبقى سواك تحيط بك ألوان الأثر الدافئة وتجرجرك الأبخرة إلى قبو الضرائح لتستريح مع الخالدين.
حالة روحية وصوفية ما كان لها أن تكون إلا في تجمع الثلاثة في حالة جنوبية وبحضور النيل.