الرئيسية

الدكتور وليد الإمام مبارك يكتب : علي مصطفى مشرفة: حياة عالم موسوعي ورائد النهضة العلمية في مصر

0 36

سلسلة مقالات بمناسبة الأحتفال بمئوية كلية العلوم – جامعة القاهرة

 

بمناسبة الاحتفال بالمئوية كلية العلوم بجامعة القاهرة، التي تمثل حلقة مركزية في مسيرة العلم والمعرفة في مصر، يُسرّنا أن نعلن انطلاقة سلسلة مقالات علمية وثقافية نُضيء فيها على تاريخ هذه المؤسسة العريقة ودورها الحيوي في بناء النهضة العلمية في مصر. منذ تأسيسها قبل مئة عام، كانت كلية العلوم منارة للفكر والبحث والتدريب العلمي، بها نشأ وتخرّج عدد كبير من الرواد والعلماء الذين أسهموا بإبداعهم وجهودهم في تقدم العلوم على المستوى الوطني والإقليمي.

لقد شكّلت كلية العلوم في جامعة القاهرة مركزًا رائدًا لإعداد أجيال متميزة من الباحثين والعلماء في كافة التخصصات العلمية، وساهمت في تأسيس قاعدة علمية صلبة أسهمت في تطور مصر العلمي والحضاري. وكانت منارة لنخبة العلماء الذين تركوا بصماتهم المجيدة في مجالات الرياضيات، الفيزياء، الكيمياء، والعلوم الطبيعية، وبرز من بينهم أسماء لامعة مثل الدكتور علي مصطفى مشرفة، الذي يجسد مثالا للعالم الموسوعي والملهم.

إن تسليط الضوء على شخصية مشرفة يحمل في طياته سردًا لحياة عالمٍ شامل، اتصف علمه بالموسوعية والتعدد في المواهب؛ فهو باحث حَصيف، مؤرخ واعٍ، محقق مُدقق، أديب ناقد، وموسيقي بارع. تميز شغفه بالتراث العربي الإسلامي، وتألق في إخراج وتحقيق كتب التراث الإسلامي والعربي، ومن أبرزها تحقيقه لكتاب “الجبر والمقابلة” للخوارزمي، حيث قدّم دراسة عميقة تناولت أهم الإسهامات التي قدّمها التراث العلمي العربي.

ولد مشرفة يوم 11 يوليو 1898 بمحافظة دمياط، وتلقى تعليمه الأول على يد والدته ثم في المدارس المحلية التي أظهرت تفوقه في الرياضيات والفيزياء منذ صغره. في رحلة لاكتساب العلم، انتقل إلى بريطانيا ضمن بعثة دراسية، حيث تميز في جامعة نوتنجهام بحصوله على شهادة البكالوريوس في الرياضيات خلال ثلاث سنوات فقط، ثم تابع دراسته العليا في جامعة لندن، نال منها درجة الدكتوراه في فلسفة العلوم تحت إشراف العالم الفيزيائي تشارلس توماس ويلسون.

عاد إلى مصر عام 1925، وبدأ حياته الأكاديمية في جامعة القاهرة، حيث عمل أستاذًا مشاركًا في الرياضيات التطبيقية بكلية العلوم، وتدرج في المناصب حتى أصبح أول عميد مصري للكلية عام 1936، واستمر في هذا المنصب حتى وفاته رحمه الله. لم يكن مشرفة مجرد أستاذ جامعي، بل كان شخصية وطنية وُجه جهوده لربط العلم بالحياة القومية، مؤمنًا بأن النهضة العلمية هي الأساس في بناء مصر الحديثة.

على الصعيد العلمي، نشرت أبحاثه نحو أربعة وعشرين ورقة تناولت موضوعات متقدمة في ميكانيك الكم، النظرية النسبية، والإشعاع، وكان من بين العلماء القلائل الذين ناقشوا نظرية أينشتاين للنسبية، واشتهر بنظريته في الإشعاع والسرعة التي أضاف بها إسهامات هامة للعلم.

أما دوره في نشر الثقافة العلمية، فقد أظهره بتنظيمه “مهرجان العلم” عام 1939، الذي كان معرضًا علميًا أسهم في تقريب العلم إلى الناس، كما أسس قسم الترجمة العلمية بكلية العلوم لتوفير العلوم باللغة العربية، وحرص على تأليف كتب مبسطة للتثقيف العلمي مثل “نحن والعلم” و”مطالعات علمية”.

كان مشرفة مهتمًا بتراث العلماء العرب والمسلمين، ودعا إلى الاعتزاز بهذا التراث العلمي، مؤكّداً على الدور الكبير الذي لعبته الحضارة العربية الإسلامية في دفع علوم النهضة الأوروبية الحديثة. كما اعتبر اللغة العربية أداةً أساسية لتأسيس الهوية العلمية والثقافية ووضعها في خدمة العلم.

عرف مشرفة بشجاعته العلمية وتفانيه في خدمة وطنه وأمته، ولم يقتصر جهده على إنجازاته الفردية بل سعى لبناء منظومة علمية متكاملة عبر دعم الطلاب والباحثين الشباب، فأثمر ذلك نشأة جيل من العلماء الذين واصلوا النهضة العلمية في مصر والعالم العربي.

ودّع العلم مصرفي 16 يناير 1950 إثر أزمة قلبية، وشيّعته مصر جنازة مهيبة، ونعاه العديد من العلماء والمفكرين، من بينهم ألبرت أينشتاين الذي وصفه بأنه «عبقري لا يزال حيًا من خلال أبحاثه». ويظل اسمه رمزًا ينبض في ذاكرة النهضة العلمية المصرية، مع تكريمه بإطلاق اسمه على مؤسسات وجوائز علمية نظرًا لدوره في ربط العلم بالهوية الوطنية والتطور الحضاري.

الدكتور وليد الإمام مبارك

مركز دراسات التراث العلمي – جامعة القاهرة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.