بين القاعات والشاشات.. طلاب الثانوية أمام مستقبل التعليم التعليم عن بُعد بين مرونة الوقت وفقدان روح الجامعة

 

مع إعلان نتائج الثانوية العامة، يبدأ آلاف الطلاب وأسرهم رحلة البحث عن مقعد جامعي يحدد مستقبلهم العلمي والمهني. وبين قاعات الجامعات التقليدية وشاشات الكمبيوتر، بات الطلاب المصريون أمام خيارات متعددة تفرضها طبيعة العصر وتطور التعليم في مصر والعالم.
ضغط متزايد على الجامعات التقليدية
تشير البيانات الرسمية إلى أن عدد طلاب الجامعات في مصر تجاوز 3.5 مليون طالب، مع توقعات بارتفاع العدد إلى أكثر من 5 ملايين خلال السنوات المقبلة، وهو ما يضع ضغطًا متزايدًا على الجامعات الحكومية التي ما زالت الوجهة الأولى للغالبية. هذه الأعداد الكبيرة تجعل من قاعات المحاضرات مكتظة وتفرض على الأساتذة عبئًا أكبر، فيما تسعى الجامعات الخاصة لاستيعاب الفائض ولكن بتكلفة أعلى قد لا يقدر عليها كثير من الأسر.
الجامعات المصرية، سواء الحكومية أو الخاصة، ما زالت تملك ثقلًا أكاديميًا ومكانة اجتماعية راسخة. فالحياة الجامعية ليست مجرد محاضرات وامتحانات، بل هي أيضًا مساحة للتفاعل الاجتماعي، وبناء العلاقات، وصناعة الشخصية، وهو ما يخشى كثيرون أن يضيع في حال الاعتماد الكامل على التعليم الإلكتروني.
شهادات عالمية من المنزل
ميزة أخرى لا تقل أهمية هي إمكانية الحصول على شهادة جامعية أجنبية من جامعات عالمية مرموقة دون الحاجة إلى السفر. جامعات مثل لندن وولاية أريزونا وهارفارد إكستنشن تتيح برامج بكالوريوس وماجستير عبر الإنترنت معترف بها دوليًا. اضافة لاكبر جامعة عبر الانترنت وهي جامعة الشعب الامريكية التي يدرس فيها اكثر من مئة واربعين الف طالب سواء درجة الباكالوريس أو الماجستير باللغة العربية أو الانجليزية. فهكذا أصبح بإمكان الطالب المصري أن يحمل شهادة أجنبية مرموقة دون أن يغادر بلده أو يتحمل نفقات المعيشة في الخارج.
التعليم الإلكتروني.. أرقام وفرص
لكن في السنوات الأخيرة، أخذ التعليم الإلكتروني يفرض نفسه بقوة. فقد شهد سوق التعليم عبر الإنترنت نموا متزايد مما يكشف عن حجم الاهتمام والطلب المتزايد على هذا النوع من التعليم، خصوصًا مع ما شهده العالم من تجربة قسرية مع جائحة كورونا. حينها انتقلت الجامعات إلى المنصات الإلكترونية في فترة قصيرة.
الدكتورة ليزا أندرسون الأستاذة الفخرية في كلية الشؤون الدولية والعامة بجامعة كولومبيا وشغلت منصب رئيسة الجامعة الأمريكية بالقاهرة قالت ” لم تعد هناك حاجة لمغادرة المنزل أو الهجرة أو مواجهة صعوبات الدراسة في الخارج. يمكن للطلاب الآن التعلم والحصول على شهادات وبناء مستقبلهم عبر الإنترنت أثناء إقامتهم في مجتمعاتهم، والمساهمة بشكل مباشر في اقتصاداتهم ومجتمعاتهم المحلية. التعليم المدعوم بالتكنولوجيا هو الوجه الجديد للتعلم من خلال توفير فرص لتغيير الحياة ليس فقط لليوم، ولكن للأجيال القادمة. إن إحدى قصص النجاح البارزة هي جامعة الشعب، أول جامعة غير ربحية في العالم مجانية ومعتمدة عبر الإنترنت. وكانت مبنية على فكرة بسيطة ولكنها قوية وهي أن التعليم العالي يجب أن يكون متاحًا لأي شخص في أي مكان “. بالنسبة للعديد من الطلاب في المناطق الريفية الفقيرة والبعيدة عن الجامعات ، تُعدّ جامعة الشعب الفرصة الواقعية الوحيدة لهم للحصول على شهادة جامعية كما قالت الدكتورة اندرسون.
ورغم أن تجربة التعليم عن بُعد لم تنل رضا جميع الطلاب، خاصة في التخصصات العملية مثل الطب والهندسة، فإنها كشفت عن إمكانية بناء نظام أكاديمي مختلف يناسب فئات واسعة. ففي دراسة أجريت بين طلاب كليات الطب في مصر، لم يبدِ الرضا سوى 43% من الطلاب عن تجربة التعليم الإلكتروني، بينما أكد 64% أن المحاضرات عن بعد أسهل من حيث التنظيم لكنها أقل فعالية في اكتساب المهارات العملية.
أكثر ما يجذب الطلاب نحو التعليم عبر الإنترنت هو المرونة. فبدلاً من الالتزام بجدول محاضرات صارم يبدأ صباحًا وينتهي عصرًا، يمكن للطالب أن يحدد بنفسه مواعيد التعلم. البعض يفضل الدراسة فجراً، وآخرون يفضلون الليل بعد الانتهاء من العمل. هذه الحرية تمنح التعليم الإلكتروني ميزة استثنائية، خاصة لمن يوازن بين الدراسة والعمل، أو للطلاب الذين يعيشون في مناطق بعيدة عن مقار الجامعات.
آراء خبراء ومسؤولين
قال الخبير الأكاديمي الأمريكي مايكل جي. مور، أحد أبرز منظّري التعليم عن بُعد “إن التعليم الجامعي عبر الإنترنت ليس مجرد فصل جغرافي بين الطالب والأستاذ، بل هو قبل كل شيء مفهوم تربوي جديد يقوم على إعادة التفكير في طرق التدريس وآليات التواصل.” هذا الرأي يوضح أن جوهر التعليم الإلكتروني لا يتوقف عند الوسيلة التقنية، وإنما يرتبط بعمق بالتغيير في الفلسفة التعليمية نفسها.
أما البروفيسور إيريك مازور من جامعة هارفارد فيرى أن التعليم الرقمي كسر الحواجز التقليدية قائلاً ” التعلم عبر الإنترنت يزيل حدود الجدران الأربعة ويجعل التعليم متاحًا في أي مكان توجد فيه شاشة.” وبذلك، يصبح التعليم الجامعي متاحًا أمام الطالب سواء كان في منزله أو مكان عمله، ما يفتح الباب لفرص غير مسبوقة في الوصول إلى المعرفة دون قيود الزمان أو المكان.
الطلاب بين مؤيد ومعارض
الطلاب أنفسهم ينقسمون في المواقف, أحمد السيد، طالب ثانوي من الجيزة، قال ” أفكر في الدراسة عبر الإنترنت لأنها أرخص وتوفر وقت المواصلات، لكنني أخشى ألا تكون شهادتها قوية في سوق العمل.” في المقابل، ترى مي عبدالعزيز، خريجة ثانوية من القاهرة، أن “الحياة الجامعية لها طعم خاص، لا يمكن أن يعوضه التعليم الإلكتروني مهما كان متطورًا.”
أما محمود الجوهر المقيم في البحرين، يتحدث عن تجربته مع التعليم عبر الإنترنت قائلاً إنه استطاع أن يوازن بين العمل والدراسة رغم صعوبة السفر المستمر. فبينما كان ينتظر رحلاته في المطار أو يقيم في غرف الفنادق خلال تنقلاته، كان يفتح حاسوبه ليواصل دراسته لدرجة الماجستير في جامعة الشعب الأمريكية. فقال ” هذه التجربة التي بدأت قبل نحو عام ونصف لم تكن سهلة لكنها زودتني بمعارف جديدة ومهارات قيادية في التخطيط الاستراتيجي والتحليل المالي، وهو ما جعلني أكثر جاهزية للترقي في عملي. وانعكس على مستقبلي المهني وزاد من فرص الارتقاء الوظيفي وتحسين دخلي “.
من الناحية الاقتصادية، يبقى الفارق واضحًا. الجامعات التقليدية تفرض تكاليف إضافية للسكن والانتقالات والكتب، بينما التعليم الإلكتروني يقلل هذه النفقات بشكل كبير. لكن الرسوم الدراسية الأساسية لا تختلف دائمًا، بل إن بعض البرامج الإلكترونية في الجامعات الأجنبية تصل تكلفتها لمستوى قريب من البرامج التقليدية.
في النهاية، يجد طلاب الثانوية أنفسهم أمام مفترق طرق حقيقي. الجامعات التقليدية ما تزال تحمل بريق الاعتراف المجتمعي وقوة التفاعل المباشر، بينما يفتح التعليم الإلكتروني آفاقًا جديدة تتلاءم مع عصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. القرار النهائي، كما يرى الخبراء، لن تحدده الجامعة وحدها، بل سيعتمد على شخصية الطالب وطموحاته وقدرته على الالتزام الذاتي. وبين من يتمسك بروح الجامعة ومن يراهن على مرونة الشاشة، يبقى المستقبل مفتوحًا على كل الاحتمالات.

Comments (0)
Add Comment