بقلم: إيمان الألفي
منذ لحظات العرض الأولى على خشبة مسرح الطليعة، يشدّك المشهد الافتتاحي في «كارمن» — مشهد مدخل مُتقن، لا يكتفي بوظيفة تمهيدية تقليدية، بل يُقدّم خلاصة رمزية تُكثّف ما سنراه لاحقًا من مشاهد العرض التي تدفقت في فصل واحد بلا فواصل، في اختيار واعٍ من المخرج ناصر عبد المنعم يؤكد رغبته في صنع تيار درامي متصل لا يتيح للجمهور فرصة فك الاشتباك مع التوتر والدهشة.
كان الأداء التمثيلي في هذا العمل أحد أبرز مفاتيح نجاحه؛ طاقة عالية، صدق انفعالي، تلوينات صوتية وجسدية حافظت على توازن الشخصيات رغم حدّة صراعاتها الداخلية والخارجية. الممثلون جميعًا — من الأدوار الرئيسية حتى الأدوار الثانوية — صنعوا لوحة حيّة نابضة تُثبت أن المسرح لا يزال مكانًا للتمثيل الحق.
يُحسب للمخرج أيضًا ذلك التوظيف المبتكر لشخصية قارئة الطاروت، التي تحوّلت هنا إلى ما يشبه لسان القدر، ترسم بالبطاقات مسارات الموت والحب والغواية. حوارها مع الأبطال بدا كأنه حوار داخلي مع النفس — وكأن البطل يُحدّث ظلاله أو يُنصت إلى هواجسه. فكرة ذكية ومُعالجة ناضجة تُحسب لصاحب الرؤية.
لكن، وسط هذه الحرفية، هناك نقاط تستحق التوقف.
ترديد فكرة أن «كارمن روح شريفة في جسد عاهر» بدا مستهلكًا، فقيرًا، من قبيل «الكليشيه» الذي يأكله الاستهلاك السطحي. الروح الشريفة لا تسكن جسدًا ملوّثًا بالمعنى الأخلاقي الذي يصرّ الحوار على طرحه — إلا إذا كان النص يريد أن يُقدّم مفارقة فلسفية أعمق، وهذا لم يظهر بوضوح كافٍ على الخشبة.
أما السقطة الكبرى — كما أراها — فهى تُقدَّيم كارمن رمزًا للحرية
والتمرد،
ثم مرتبطة بزوج لا يظهر له أثر، بينما تتنقل بين الرجال دون ضابط أو منطق درامي مُقنع؟ هل التمرّد هنا حرية حقًا أم عُهر مجاني بلا معنى؟
الأصل في كارمن أنها امرأة ترفض أن يملكها أحد، لا أن تخون رجلًا تزوّجته وتمنح جسدها لمن هبّ ودبّ. هنا يسقط التمرّد في التناقض: تمرد بلا مشروع، حرية بلا قيمة، استفزاز بلا سؤال حقيقي.
الخلاصة
«كارمن» على مسرح الطليعة تجربة بصرية وتمثيلية ممتعة، إخراج واعٍ، مشهد افتتاحي محترف يشرّح العالم الرمزي بكثافة، وممثلون أوفياء للفن. لكن مضمون العمل، في بعض اختياراته الدرامية، يسقط في فخ الأفكار المستهلكة والثقافة السطحية، فيشوّش جوهر السؤال الذي جعل «كارمن» نصًا خالدًا منذ قرون:
هل الحرية لعنة أم خلاص؟
______________
وتبقى المسرحية، رغم ملاحظاتي، خطوة مهمة في تقديم النص الكلاسيكي العالمى على مسارحنا .وإن المسرح مازال قادر على أن يكون فضاء لطرح المدهش